Biography |
تَذكارُ القِدِّيسِ أَفْرامَ السُرْيانِيّ وُلِدَ مار أَفْرامُ في نَصِيبِين، في بِلادِ ما بَيْنَ النَهْرَين في سَنَةِ 306. أُولِعَ، مُنْذُ حَداثَتِهِ، بِمُطَالَعَةِ الكِتابِ المُقَدَّس، واقْتَبَسَ مِنْهُ رُوحًا شِعْرِيَّةً وَثَّابَة، ظَهَرَتْ في كُلِّ ما كَتَبَهُ مِنْ نَثْرٍ وشِعْرٍ بِاللُغَةِ السُريانِيَّة. تَمَتَّعَ أَفْرامُ بِـمَـواهِـبَ طَبِيعِيَّةٍ أَنْمَاهَا وصَقَلَهَا بِالدَرْسِ والتَأَمُّلِ في الكِتابِ المُقَدَّسِ وكِتاباتِ الآباء. عَكَفَ عَلَى دراسَةِ عَقَائِدِ الكَنيسَةِ بِدِقَّة، وقَدْ هَدَى العَدِيدَ مِنَ الوَثَنِيِّينَ إِلَى الإيمانِ بِالمَسِيح. تَتَلْمَذَ عَلَى يَدِ مار يَعْقُوبَ (308/309 - ما بعد 338) أُسْقُفِ نَصِيبِين. ولَمـَّا أَرادَ أَنْ يَـمْـنَـحَـهُ دَرَجَـةَ الـكَـهَـنُـوت، اعـتَـذَرَ لِـتَـواضُــعِـه، واكـتَـفَـى بِـأَنْ يَـبْـقَى شَـمَّـاسًـا إِنْـجِـيلـيًّـا. ثُـمَّ أُقِـيمَ أُسْتاذًا لِمَدْرَسَةِ نَصِيبِينَ الشَهِيرَة، فَانْكَـبَّ عَـلَى الـتَـدْرِيـسِ والـتَـأْلِـيـفِ حَـتَّـى بَـلَـغَـتْ تِـلْـكَ المَدْرَسَةُ أَوْجَ الازدِهَار، وكانَ تَلامِيذُهَا مِنْ مَشَاهِيرِ العُلَماءِ السُريان. وفي خِلالِ انعِقَادِ مَجمَعِ نِيقْيَةَ الأَوَّلِ (325)، وَهُوَ المَسْكُونِيُّ الأَوَّلُ في الكَنيسَة، اصطَحَبَهُ مَعَهُ القِدِّيسُ يَعْقُوب، أُسْقُف نَصِيبِين، ثُمَّ جَعَلَهُ مُعَلِّمًا في المَدْرَسَةِ الحديثَةِ التي أَسَّسَهَا سَنَةَ 325، حَيْثُ جَاهَدَ بِالتَعْلِيمِ والتَأْلِيفِ حَتَّى سَنَةِ 363، إِذْ سُلِّمَتْ نَصِيبِينُ إِلَى شَابُورَ الثاني (310-379) مَلِكِ الفُرْس. فَانْتَقَلَ إِلَى الرُّهَا حَيْثُ واصَلَ جِهَادَهُ في حَقْلِ التَعْلِيمِ وَوَضْعِ الكُتُب، وهُــنَـاكَ أَلَّــف، ورُبَّـمـا لأَوَّلِ مَرَّةٍ فـي تــاريـخِ المَسِيحِيَّة، جَـوقَـةَ تَـرتِيلٍ مِنَ الفَتَياتِ "العَذَارَى"، عَلَّمَهُنَّ خِدْمَةَ الطُّقُوسِ وتَأْدِيَةَ التَراتِيلِ الشَجِيَّةِ التي كانَ يَكْتُبُهَا ويُضَمِّنُهَا حَقَائِقَ الإِيمانِ والآداب. كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ التَراتِيلِ لا يَزالُ مُسْتَعْمَلًا في الكنائِسِ الناطِقَةِ بِالسُريانِيَّةِ أَثْناءَ صَلَواتِهَا الرَسْمِيَّة". تَصَدَّى لِلْهَرْطَقات، فَجَعَلَ التَعْلِيمَ القَويمَ في أناشيدَ بَدِيعة، جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الناسِ بِيُسْر. كَتَبَ بِلُغَةٍ شِعْريَّةٍ لا نَظيرَ لَهَا. أَشْهَرُ أَشْعَارِهِ هِيَ تِلْكَ التي نَظَمَهَا في العَذْراءِ مَرْيَم، والدِفاعِ عَنِ الإيمانِ المُستَقِيم، وقَدْ سَاهَمَتْ جِدًّا في تَدْعِيمِ العَقائِدِ الكَاثُوليكِيَّة. شَرَحَ الكِتَابَ المُقَدَّسَ كُلَّهُ مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ إِلَى سِفْرِ الرُؤْيَا، آخِرِ سِفْرٍ مِنْ كُتُبِ العَهْدِ الجَدِيد. قِسْمٌ كَبِيرٌ مِنْ أَناشِيدِهِ دَخَلَ في الكُتُبِ اللِّيتُورجِيَّةِ السُريانِيَّة. وقَدْ شَهِدَ آباءٌ كَثيرونَ لأَهَمِّيَّةِ مُؤَلَّفاتِهِ حَتَّى إنَّ شُرُوحَهُ كانَتْ تُقْرَأُ في الكَنيسَةِ بَعْدَ تِلاوَةِ الكِتَابِ المُقَدَّس. تَمَيَّزَتْ حَياةُ أَفْرامَ أَيْضًا بِالنُسْكِ الرُهْبانيّ، وقَدْ وَعَى حَقيقَةَ الحياةِ الفانية، فَهَرَبَ مِنَ العَالَمِ وهُمُومِهِ، سَالِكًا في ما قَالَهُ مُرَنِّمُ المزامير: "ها أَنَذَا أَبْتَعِدُ هارِبًا وآوي إِلَى البَرِّيَّة" (مز 55: 7). هَمُّهُ، عَلَى حَدِّ تَعبيرِ غْرِيغُورْيُوس النِيصِيّ (+ 394)، باتَ مُوَجَّهًا لِنَفْسِهِ ولله. هَكَذَا تَقَدَّمَ في اكتِسَابِ الفَضيلَة. "كانَ يَعْلَمُ أَنَّ حَياةَ البَرِّيَّةِ تُحَرِّرُ الراغِبَ فِيهَا مِنْ صَخَبِ العَالَمِ الباطِل، وتَجعَلُهُ كَلِيمَ الملائِكَةِ عَنْ طَريقِ السَكِينَةِ وتَـــرَفُّــعِ ذِهْــنِــهِ بِــاسْــتِــمرارٍ إِلَى الـرُؤَى الإِلَهِيَّة". لَمْ يَكُنْ لِحَمِيَّتِهِ فـي النُسْكِ حُدُود: نَومٌ عَلَى الأَرْض، وصَوْمٌ عِدَّةَ أَيَّامٍ بِكَامِلِهَا، وسَهَرٌ في الصَلاةِ أَكْثَرَ اللَّيْل، وعَمَلٌ وتَعَبٌ في النَهَار. كانَ القَانُونُ يَفْرِضُ في كُلِّ أَدْيِرَةِ مِصْرَ وبِلادِ ما بَيْنَ النَهْرَينِ أَنْ يَبْذُلَ النُسَّاكُ أَتْعَابًا جَزِيلَةً جَزاءَ تَوْبَتِهِمْ وتَكْفِيرًا عَنْ مَعَاصِيهِمِ السَالِفَة. وكانَ عَلَيهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَنْ ذَلِكَ حِسَابًا في نِهايَةِ كُلِّ أُسْبُوع. انْضَمَّ أَفْرامُ إِلَى شَيْخٍ مُبارَكٍ اسمُهُ يُولْيَانُوسُ وتَتَلْمَذَ عَلَيه. وكانَ العَمَلُ اليَدَوِيُّ مَقْرُونًا بِالصَلاة. فَكَانَ عَلَى كُلِّ راهِبٍ أَنْ يَحفَظَ كِتابَ المزامِيرِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ. أَمَّا ما يُحَصِّلُونَهُ فَوقَ ما يَحتاجُونَ إِلَيهِ فَكَانُوا يُوَزِّعُونَهُ عَلَى الفُقَراء. الفَقْرُ عِنْدَهُمْ كانَ التِزامًا. لَمَّا قَرُبَتْ سَاعَةُ الرَحِيلِ إِلَى السَمَاءِ قَالَ: "لَمْ تَكُنْ لأَفْرامَ مَحْفَظَةٌ ولا عَصًا ولا كِيسٌ مُطْلَقًا. ولا امتَلَكْتُ فـي حَـيـاتـي شَـيْـئًـا مِـنَ الـذَهَـبِ أَوِ الفِضَّة، لأنِّي سَمِعْتُ المَلِكَ السَمَاوِيَّ يَقُولُ لِتَلامِيذِهِ أَنْ لا يَقْتَنُوا شَيْئًا عَلَى الأَرْض. لِذَا لَمْ أَرْغَبْ بِشَيءٍ بَلِ ازْدَرَيْتُ المجدَ والمالَ ومِلْتُ إِلَى العُلْوِيَّاتِ …". ولَدَينَا نَصٌّ مُدَوَّنٌ عَلَى إِيقُونَةِ مار أَفْرام، في كَنِيسَةِ مار إِغْنَاطْيُوسَ الأَنْطَاكِيّ، في بَطْرِيَرْكِيَّةِ السُريانِ الكَاثُولِيك، في مِنْطَقَةِ المَتْحَفِ - بَيرُوت، يَختَصِرُ جِهادَ مار أَفْرام، يَقُولُ: "مِن طَليٌوةي لسَيبٌوةي. نٍيرُك شَِّقلِة مُري. وفَِّلحِة دلاُ قٌوطُع كٌليٌوم حُديُايٍة. عدَمُا لشٌولُمُا (من طُفُولَتي إِلَى مَشِيـبِـي حَمَلْتُ نِيرَكَ يا رَبّ، وعَمِلْتُ دُونَ انقِطَاعٍ كُلَّ يَومٍ بِفَرَحٍ، حَتَّى النِهَايَة). لُقِّبَ مار أَفْرامُ بِــــ "عَمُودِ الكَنيسَة" و "شَمْسِ السُّريان"، و "كَنَّارَةِ الرُوحِ القُدُس". وأَتَى عَلَى ذِكْرِهِ، فـي هَـذا المجـال، القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَهَبِيُّ الفَم (+ 407) قائِلًا: "أَفْرامُ كَنَّارَةُ الرُّوحِ القُدُس، ومَخزَنُ الفَضَائِل، مُعَزِّي الحَزانَى، ومُرْشِدُ الشُبَّان، وهادِي الضَّالِّين، كَانَ عَلَى الهراطِقَةِ كَسَيْفٍ ذِي حَدَّين". وَلَقَدْ وَصَفَهُ الــخُــورأُسْــقُــفُ إِسْحَقُ أَرْمَلَة "بِالفَيْلَسُوفِ الرُوحَانِيِّ والأُسْتاذِ الحَكِيم، نَبِيِّ السُّريانِ وفَخْرِهِمْ وإِمَامِ عُلَمَائِهِمْ ومَلافِنَتِهِم، بَحْرِ المعارِفِ المُمْتازِ بِالفَضَائِل، رُكْنِ الدِّينِ المَتِينِ ومُصَارِعِ الخارِجِينَ والمُلْحِدِين". وَلَقَدْ أَخَذَتِ الكَنائِس، مُذْ كَانَ بَعْدُ في قَيْدِ الحيَاة، تَتَرَنَّمُ بِأَناشِيدِهِ الرائِعَة، وما بَرِحَتْ تَتَرَنَّمُ بِهَا لِهَذَا العَهْد. قَدْ أَنْشَأَ مار أَفْرامُ مِنَ المَدارِيشِ والمَيَامِرِ في كُلِّ فَنٍّ ومَطْلَبٍ مِمَّا لا يَقَعُ تَحْتَ الإِحْصَاء. ومِنْ مَزِيَّتِهِ الخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ في عِباراتٍ وَجِيزَةٍ مَعَانِيَ جَمَّة. أَمَّا وَصِيَّتُهُ لِتَلامِيذِهِ، عِنْدَ دُنُوِّ أَجَلِهِ، فَكَانَتْ تَحرِيضًا عَلَى التَواضُعِ والمَحَبَّة، وأَنْ لا يَقُولُوا فِيهِ مَـدِيـحًــا بَــعْــدَ مَــوْتِــهِ ولا يُقَدِّمُوا لِجَسَدِهِ كَرامَةً بَلْ يَدْفِنُوهُ في مَقْبَرَةِ الغُرَبَاء، مُكَفَّنًا بِثَوْبِهِ الرُهْبَانِيِّ البَالي. وأَنْ يَجْمَعُوا الدَراهِمَ التي تُبْذَلُ في حَفْلَةِ دَفْنِهِ ويُوَزِّعُوهَا عَلَى الفُقَراء. وبَعْدَ أَنْ وَدَّعَهُمْ، رَقَدَ بِالرَّبِّ في 18 حُزَيران سَنَةَ 373. صَلاتُهُ مَعَنَا. آمين. |