| Biography |
تَذكارُ القِدِّيسِ مُوسَى الحَبَشِيّ كانَ مُوسَى مِنْ بِلادِ الحَبَشَةِ الغَنِيَّة، الواسِعَةِ الأَرْجَاء، المُتَرامِيَةِ الأَطْراف، عَبْدًا مُنْذُ حَداثَتِهِ لأَحَدِ أَغْنِيَاءِ بِلادِهِ. وكانَ شَرِسَ الطِباع، صَعْبَ الانْقِيَاد، كَثِيرَ النَقَائِص، عَدِيدَ الرَذائِل، فَلَمْ تَنْجَحْ فِيهِ الحِيَل، رَغْمَ ما كانَ يَنَالُهُ مِنَ التَأْدِيبِ والضَرْب. أَمْسَى عِبْئًا ثَقِيلًا عَلَى سَيِّدِهِ، فَطَرَدَهُ مِنْ بَيْتِهِ. ولَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ يَعِيشُ مِنْهُ، جَمَعَ لَهُ رِفْقَةً تُشْبِهُهُ مِنَ الرِجَالِ المُتَشرِّدِينَ فَضَمَّهُم إِلَيهِ، وأَخَذَتْ تِلْكَ العِصَابَةُ تَعِيثُ فَسَادًا في البِلاد، وتَقْطَعُ الطُرُقَ عَلَى العِبَاد. أَضْحَتْ وَبَالًا عَلَى النَاس، ونَشَرَتِ الرُعْبَ في تِلْكَ الجِهَات. كانَتْ تَسْطُو عَلَى القَوافِل، فَتَقْتُلُ وتَسْلُب، وتَأْتي ما لا يَصِفُهُ القَلَمُ مِنْ أَنْواعِ الرَذائِلِ والقَبَائِح. بَقِيَ عَلَى تِلْكَ الحالِ حَتَّى بَلَغَ الثَلاثِينَ مِنْ عُمْرِهِ، إِلَى أَنْ هَداهُ اللهُ عَلَى يَدِ أَحَدِ السُيَّاح، فَظَهَرَتْ لَهُ فَظَاعَةُ حَيَاتِهِ، فَهَالَهُ الأَمْر، وتَابَ تَوْبَةً حَقِيقِيَّة، مُتَنَسِّكًا، مُمَارِسًا الفَضَائِلَ بِبُطُولَة؛ وعَزَمَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا بِالدُمُوعِ والصَلاةِ والصَوْم، والانْفِرادِ مَعَ النُسَّاكِ في البَرارِي والقِفَار. وأَتَى بَرِّيَّةَ الإِسْقِيطِ الآهِلَةَ وَقْتَئِذٍ بِالرُهْبانِ والنُسَّاك. فَطَرَقَ بابَ القِدِّيسِ مَكَارْيُوسَ وطَلَبَ إِلَيهِ أَنْ يَرْأَفَ بِهِ ويَقْبَلَهُ بَيْنَ رُهْبانِهِ، ويُسَاعِدَهُ عَلَى عَمَلِ تَوْبَةٍ شَدِيدَةٍ يُكَفِّرُ بِهَا عَنْ آثامِهِ. وما هِيَ سِوَى أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ حَتَّى أَضْحَى مُوسَى مِنْ أَفْضَلِ الرُهْبان، بِطَاعَتِهِ وصَلاتِهِ وصِيَامِهِ ودَوامِهِ عَلَى العَمَلِ اليَدَوِيّ، ومُمَارَسَتِهِ لأَنْواعِ الإِماتاتِ الشَدِيدَةِ المُتَواصِلَة، والصَلَواتِ الدائِمَة، ذارِفًا الدُمُوع، مُتَضَرِّعًا إِلَى اللهِ لِكَيْ يَنْسَى آثامَهُ ويَتْرُكَ لَهُ ذُنُوبَهُ. وانْتَشَرَ خَبَرُ تَوْبَتِهِ في الصَحَارِي بَيْنَ النُسَّاكِ والرُهْبان، وفي المُدُنِ والقُرَى بَيْنَ السُكَّان، فَأَقْبَلُوا يَتَوافَدُونَ عَلَيْهِ، يُرِيدُونَ أَنْ يُشَاهِدُوا بِأَعْيُنِهِم ذاكَ الذِي كانَ لِصًّا شِرِّيرًا، فَأَصْبَحَ ناسِكًا قِدِّيسًا. فَلَمْ يَبْقَ لَهُ وَقْتٌ يَتَفَرَّغُ فِيهِ لِعِبَاداتِهِ. فَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ مَكَارْيُوسَ يَشْكُو لَهُ أَمْرَهُ. فَأَشَارَ عَلَيهِ أَنْ يَتَوغَّلَ في القَفْرِ ويَنْفَرِدَ فِيهِ وَحْدَهُ. فَفَعَل. وَجَدَ كُوخًا حَقِيرًا فَسَكَنَ فِيهِ، وقَامَ يُمَارِسُ أَعْمَالَ تَوْبَةٍ شَدِيدَةٍ وصَادِقَة. وهَكَذَا اغْتَنَى فَضِيلَةً، وأَضْحَى مِنْ أَعْظَمِ النُسَّاك، ومِنْ أَكْرَمِهِم شَأْنًا، ومِنْ أَجَلِّهِم خِبْرَةً في الأُمُورِ الرُوحِيَّة، بِفَضْلِ مُعَاشَرَتِهِ لِلْقِدِّيسِين، وصَارَ يَقُودُ الرُهْبانَ بِحِكْمَةٍ ودِرايَةٍ وفَضِيلَةٍ في طَرِيقِ الكَمَال. أُعْجِبَ تِيُوفِيلُس، بَطْرِيَرْكُ الإِسْكَنْدَرِيَّة، بِعِلْمِهِ ودِرايَتِهِ وحِكْمَتِهِ، فَمَنَحَهُ سِرَّ الكَهَنُوت، وأَقَامَهُ يُوَزِّعُ عَلَى إِخْوَتِهِ الرُهْبانِ كَلامَ الله، ويُغَذِّيهِم بِالأَسْرارِ الإِلَهِيَّة. لَكِنَّ تِلْكَ الكَراماتِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِتَزِيدَهُ تَواضُعًا وسَهَرًا عَلَى نَفْسِهِ. وقَدْ تَميَّزَ بِإِبْداءِ الرَأْيِ الصَائِبِ والإِرْشَادِ الحَكِيمِ والأَمْثَالِ الحَيَاتِيَّة. ولَمَّا تَقَدَّمَ بِالسِنّ، وصَارَ إِلَى شَيْخُوخَةٍ صَالِحَة، وامْتَلأَ مِنَ النِعَمِ السَمَاوِيَّة، قَالَ لِبَعْضِ الرُهْبانِ مِنْ تَلامِيذِهِ: "في هَذا النَهَارِ يَهْجُمُ عَلَيْنَا البَرابِرَةُ ويَقْتُلُونَنَا. فَقُومُوا وانْجُوا بِأَنْفُسِكُم". فَقَالُوا لَهُ: "إِذا كانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقُمْ مَعَنَا لِنَتَوارَى مِنْ أَمَامِهِم". فَقَالَ لَهُم: "أَمَا قَرَأْتُمْ في الكِتَابِ المُقَدَّسِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالسَّيفِ بِالسَّيفِ يُؤْخَذ؟ وأَنَا لا بُدَّ لي أَنْ أَمُوتَ بِالسَّيف، تَكْفِيرًا عَنْ آثامِي السَالِفَة". فَأَبَوا أَنْ يَتْرُكُوهُ ويَهْرُبُوا. وفِيمَا هُمْ كَذَلِكَ، أَقْبَلَتْ شَراذِمُ البَرْبَر، وأَعْمَلَتِ السُيُوفَ في رِقَابِهِم، ولَمْ يَنْجُ مِنْهُم إِلَّا واحِدٌ كانَ قَدْ تَوارَى وَراءَ زَنْبِيلٍ كَبِير. وهَكَذَا أَنْهَى مُوسَى حَيَاتَهُ الغَرِيبَة، وبَقِيَ مِثَالًا حَيًّا لِلتَكْفِيرِ عَنِ الذُنُوبِ ولِعِظَمِ مَراحِمِ الله. وكانَ ذَلِكَ نَحْوَ سَنَةِ 400. صَلاتُهُ مَعَنَا. آمين. |
